«جنون الذاكرة»… معرض مصري يسافر بالمومياوات على أجنحة الخيالأحمد الجنايني يقدم مائتي لوحة عن مسيرته التشكيلية
يمزج الفنان التشكيلي المصري، أحمد الجنايني، بين الخيال والواقع، في أكثر من 200 لوحة تقدم رؤية بانورامية عن مسيرته التشكيلية على مدى 50 عاماً، في معرض استعادي يستضيفه أتيليه العرب للثقافة والفنون «جاليري ضي» بالزمالك (غرب القاهرة)، تحت عنوان «جنون الذاكرة».
الحلم والخيال يمكن أن تكون مساحتهما كبيرة لدرجة تملأ فضاءات العالم، لكن كيف يستطيع الفنان الإمساك بهذا الحلم وتجليات الخيال في إطار لوحة أو قصيدة شعر أو عمل أدبي؟ هذا هو الرهان الذي ينطلق منه الجنايني، الذي ولد في محافظة الدقهلية (دلتا مصر) عام 1954، وبدأ حضوره في الساحة الفنية المصرية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم.
يصف الفنان فلسفته فيقول: «الموت هو الشيء الوحيد القادر على إنهاء الحلم وتفتيت الخيال، ولنتصدى للموت ونحافظ على الحلم والخيال، يجب أن نقف أمام نافذة الفن المسحورة لنقبض باللون والكلمات والموسيقى على مفاصل الأحلام، فنتحسس نعومة ملمسها ودفء أنفاسها وغرائبية عوالمها وجنون كينونتها، حينها نسمع همس عرافة القلب كأنه ميلاد حب بعد الطوفان، ونشرب من عصير الروح ما يكفي لأنسنة الحلم وبعث الحياة».
يراهن الفنان على اللون بالدرجة الأولى وعلى الخيال في المرتبة الثانية، ثم على ثيمات متنوعة من الحضارة المصرية القديمة ومن الشارع المصري وألعابه القديمة، وربما كان رسمه للمومياوات هو الأكثر حضوراً في لوحات المعرض، وعن هذه الثيمة يقول لـ«الشرق الأوسط»: «المومياء موجودة في التاريخ المصري القديم منذ 7 آلاف سنة، وهي عبارة عن جسد ميت يتم تحنيطه بلفائف الكتان. أخذت المومياء باعتبارها كتلة فنية وأعدت صياغتها بفك اللفائف الكتانية من فوقها لأعيد بعثها مرة أخرى في الزمن الآني، وفي لوحة عن المومياء يظهر وجه قريب من وجوه الفيوم الشهيرة، وكأن الحياة تعود إليها مرة أخرى».
لأكثر من 50 سنة امتدت مسيرة الجنايني الفنية، تخرّج في كلية الهندسة عام 1977، ثم اتجه للدراسات الحرة في الفن بمصر وألمانيا وبولندا، ومر عبر مشواره الفني بتجارب شتى ومعالجات مختلفة، والتحم مع مدارس فنية متنوعة يمزج بينها ويقف على مسافة منها ليصنع بصمته الخاصة، ويراجع الفنان تأريخ لوحاته التي يعود بعضها لمنتصف السبعينات، وأخرى لبداية الثمانينات ثم التسعينات والألفينات، موضحاً: «مررت بمراحل فنية مختلفة ولكن لا يكاد يبين الفرق بين مرحلة وأخرى، فالنقلات بين المراحل ناعمة وتكاد تكون غير مرئية».
وبحسب الفنان: «هناك شرك أو فخ وقع فيه كثير من الفنانين، وهو نقل المدارس الفنية من الغرب بشكل مباشر دون فهم خصوصية المجتمع الغربي الذي أنتج هذه المدارس، سواء السريالية والتجريدية والتكعيبية والتأثيرية والدادائية وغيرها؛ فكلها مسميات قادمة من الغرب، وكان لهذه المدارس أسباب تاريخية أو علمية أو سياسية لتظهر في مجتمعاتها، فمثلاً ظهرت (التأثيرية) على وقع اكتشافات علمية جديدة، وبعد الحرب العالمية وفقدان الثقة في التقدم الإنساني ظهرت الدادائية (الوحشية)، ومع ظهور علم النفس وبروز نجومه مثل سيجموند فرويد ويونغ ظهرت (السريالية)».
ويضيف: «من هنا لم أضع أمام عيني مدرسة معينة أو نمط معين للعمل عليه، لم أقل مثلاً سآخذ دالي وأعمل سيرياليته، لا آخذ كاندنسكي وأقدم تجريديته، بل أستفيد من الجميع لأصنع في النهاية بصمتي الخاصة التي تعبر عني ولا تشبه أحداً، لذلك أقمت معرضاً في دار الأوبرا المصرية قبل سنوات تحت عنوان (سريالية التجريد). لا تستطيع تصنيفي بأني سريالي ولا تجريدي، ولكنني وضعت تجربة جديدة وفقاً لفلسفتي ورؤيتي الفنية».
تتنوع أعمال الفنان وتمتزج فيها مدارس شتى لتتجلى في النهاية بطابع مصري أصيل، يتضمن العديد من الرموز من الحضارة المصرية القديمة أو الرموز الدينية مثل السمكة المعروفة باعتبارها رمزاً للخير وتكثير الطعام في الثقافة المسيحية، أو الحروفية الموجودة في الفن الإسلامي، ولا يخلو المعرض من أبعاد فنية جريئة في استخدام اللون والكتل في رسم الشخوص والتعامل مع بيئات مختلفة من ريف مصر إلى البورتريه في ألمانيا وبولندا.
ويصدّر الفنان – الذي له أكثر من عمل أدبي في الشعر والرواية – معرضه بكلمة تعبّر عن فلسفة المعرض جاء فيها «أيها الحلم الشفيف، كيف تشكلت من حكمة وعبير الكتب المقدسة، وجنون نيتشه المنصهر في جحيم زرادشت حين تحدث، وتعلقت بروح جبران النبي وأجنحته المتكسرة، فصرت أيها الحلم هيوليا وتمددت فصرت أكبر من فضاءات الكون، وصارت أحلامنا أكثر اتساعاً وجنوناً من فضاءات هذا العالم».
معارض كثيرة أقامها وشارك فيها الفنان المصري أحمد الجنايني خلال مسيرته الفنية، منها معارض في ألمانيا وبولندا ولبنان ومصر والعراق، ويعدّ معرضه الحالي المستمر حتى 20 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، بمنزلة استعادة شاملة لرؤى متنوعة قدمها عبر مشواره الفني مستخدماً خامات متنوعة وتقنيات مبتكرة.




