menu Home

يعرب العيسى: العثور على سوري في سوريا

نشرتُ قبل أسابيع نصاً في مجلة، وهذا شأن اعتيادي يحصل آلاف المرات كل يوم في كل أنحاء العالم. أعدتُ نشر النص ورابطِهِ في صفحتي الشخصية على الفيسبوك، وهذا أيضاً شأن أقل من عادي. نتراشق جميعاً نشر العابر والثمين مما نفعل. أعاد عدد من أصدقائي نشر النص أو مشاركته مع تقديم أو تعقيب منهم (طبيعي أيضاً أن يكون بعض الناس بهذا اللطف).

لكن بعض هؤلاء الأصدقاء ـ مبالغةً باللطف ـ وضع تعريفاً او رأياً في بداية النص أو في نهايته، وقد تكررت عبارة واحدة بفروقات صياغية طفيفة: “كاتب سوري ما زال يعيش في دمشق”، بل وحمّلها أحدهم لمسةً نبوئيةً بدت له منطقية: “… حتى الآن”.

لا بأس، أفهم حسن النوايا، وصدق الشعور، ولكنّي لا أستطيع منع نفسي من التوقف طويلاً عند هذا التغير الفادح في البديهيات التي ألِفْتها، على الأقل في تمييز ما يجب أن يُقال، وما يجوز، وما لا داعٍ لقوله.

راجعت ذاكرتي، واستعنت بمحركات البحث، لعلّي أعثر على مصدر أو مكان قيل فيه: العازف البلغاري المقيم في صوفيا، أو اللاعب المكسيكي الذي يلعب في فرق بلاده، الرسّام الروماني، لاعبة الجمباز الليتوانية، المطربة البحرينية، أو أي شيء آخر من هذا القبيل.

لربما لا يجوز القياس على بلدان آمنة، أو أزمنة مستقرّة. بحثت عن الشعراء الصربيين، عارضات الأزياء الصوماليات. مصمم المجوهرات الكشميري، وصلت بي السبل إلى الأشقاء الأفغان. دون جدوى، فإما أن يقال: كاتب أفغاني يعيش في نيويورك، أو أن يقال: ناشطة أفغانية في مجال التعليم. وعندها نفهم أنها تعيش في كابول، وتركّز نشاطها على الأطفال هناك، وحصلت على جائزة نوبل لأجل ذلك.

لا يكفي أن أقول: فأين سأكون إذاً؟ الأمر أعقد وأكثر التباساً من ذلك، الأمر بات متعلقاً بفكرة بديهية تسلّم بأن السوري هو ذلك الشخص الذي ولد في سوريا ويعيش الآن في مكانٍ ما، قد يكون ألمانيا أو تركيا، وربما مصر أو السويد. ولن يهتم أحد أين هو تماماً، إلا إذا أراد دعوته لمعرض فني أو أمسية شعرية أو ورشة تصنيع صابون غار، أو أن يشتاق للقائه ببساطة.

انقلاب البديهية رأساً على عقب يتعلّق بالحالة السورية أكثر مما يتعلق بالعقول التي استوطنتها هذه البديهية الجديدة، فالعقول تتوقع طبعاً أن يعيش بعض السوريين في سوريا، لكنّها ترسم لهم صورة غائمة مرقّطة وملطّخة ببقع من الصفات الغرائبية الثابتة.

لذلك فإن أي اختلال في الصورة الثابتة التي رَكَنَت إليها يشعرها بواجب تصويب الخلل ـ لنفسها على الأقل ـ بطرق عديدة أكثرها شيوعاً أن تقول للشخص: وماذا تفعل هناك؟ متى ستغادر؟ أو أن تحاول مساعدته على الخروج، أو أن تقدّمه للآخرين كأعجوبة، أو ببساطة تشتمه.

مرّت مرحلة من مراحل الحرب اشتدت فيها حدّة الانقسام بين سوريي الداخل وسوريي الخارج، فتشاتما وتبادلا الاتهامات وألقاب الخيانة. وأضيف صنفان جديدان إلى أصناف السوريين ـ وكأنهم كانوا بحاجة للمزيد ـ واختير خط الحدود مقياساً، فمن هم داخله لهم ملامح وانتماءات وعقائد تتنافر جذرياً مع من هم وراءه. مع الوقت خفتت حدة هذا الانقسام، حتى كادت تصمت تماماً مع تفاقم الأوضاع المعيشية على من هم في الداخل، واستقرار من هم بالخارج في حياتهم الجديدة، وتحررهم من تلك الأهواء المعذّبة كالحنين والعجز، والذنب في بعض الحالات.

قصتي شخصية للغاية، وفردية لدرجة ضيقة، ولا تصلح لاستنتاج شي مهم، لكنّها كشفت لي أن تلك الحدة لم تخفت كما كنت أظن، بل تم تحنيطها على صورتها النهائية وحفظها في بناء حجري راسخ، مع امكانية استحضارها في أي وقت، مثل أن يقيم فنان معرضاً أو يؤلف روائي كتاباً، أو يلتحق لاعب كرة قدم بالمنتخب، أو يكتب صديق نصاً أدبياً.

أجل أنا أعيش في الجزء المتبقي من سوريا مع تسعة ملايين آخرين (9.4 مليون إذا شئت الدقة)، بينهم بعض من تبقى من أساتذتي وأصدقائي، نلتقي أحياناً، نختلف على كثير من الأشياء، نتناقش بحدة، ونتمترس خلف وجهات نظرنا (غير المهمة بالطبع)، ننتقد كتابات بعضنا أو نثني عليها، نتنمر على صديقنا الكاتب الذي قرر في أواخر خمسينياته أن يصبح رساماً، ثم نعود بصعوبة إلى بيوتنا المظلمة لعدم توفر وسائل نقل.

ليست البلاد بالنسبة لي أغنية أو شعاراً أو شعراً، إنها ببساطة المكان الذي ولدت فيه وألِفته، وألِفْتُ نفسي فيه. ولا طاقة لي على اعتياد مكان جديد. بقائي ليس خياراً استراتيجياً، ولا موقفاً سياسياً من هنا أو هناك، ليس لوماً لمن رحل ولا لمن بقي، ليس فيه شبهة انتقاد أو اتهام، فلكل منّا ظروفه وحساباته ومزاجه. شخصياً أسخر من القصائد التي ما زالت تنثر الياسمين في أبياتها، ومع ذلك ما زلت أنحني على الرصيف لأجمع قبضة من الزهرات المتساقطة، واحتفظ بها لأتشممها طيلة طريقي، أعرف عيوب دمشق ونقائصها، ربما أكثر من الجميع، لكني متعلّق بها، أبرد في الشتاء، أعيش مذعوراً كل الوقت، تزداد دقات قلبي على كل حاجز. أُطرِق أرضاً وأغذ الخطى حين ألمح سيارة متوقفة وفيها أربعة رجال. لست راضياً عن شيء مما يجري حولي (تقريباً) ولا أملك شيئاً لتغييره. كل ذلك صحيح. لكن لم أفهم حتى الآن ما علاقة هذه بتلك؟ أعيش حياة سيئة للغاية في بلاد قاسية للغاية. لكنها بلادي. والقصة بسيطة: إنها لعنة الاعتياد.

هل أنا سعيد؟ أبداً. هل يبقيني الأمل بشيء ما؟ أبداً. ألا أرى حجم السوء حولي؟ أراه، وأتظاهر بأني لا أراه. ولو كنت في فرنسا سأفعل الشيء نفسه وأتجاهل جان ماري لوبان وتيارها لو اعترضوا سُمرتي في الطريق، ولو كنت في المانيا لعبرت قرب النازيين الجدد بالذعر نفسه.

على الأقل أنا هنا منذ زمن طويل، أنفقت معظمه في التعرّف على التفاصيل، ثم اعتيادها. أفكر أحياناً أنها لو لم تكن حياةً في بلاد وأنا الذي عاشها، لو كانت مجرّد مسلسلٍ تلفزيوني شاهدت حلقة منه كل يوم لأكثر من نصف قرن، كيف سيطاوعني قلبي ألا أحضر الحلقات الأخيرة منه؟

أجل أجل، كاتب سوري ما زال يعيش في دمشق، ولا أظن هذه العبارة ستتغير قريباً، وإذا ما حصل تغيير عليها فلن يكون في اسم دمشق بل في فعل (يعيش).

عدد الزوار 41
يونيو 15, 2023
  • cover play_circle_filled

    01. المعلق الصوتي وائل حبال

    file_download
  • cover play_circle_filled

    02. المعلق الصوتي وائل حبال

    file_download
  • cover play_circle_filled

    01. التعصب الرياضي

    file_download
play_arrow skip_previous skip_next volume_down
playlist_play
//